مدائن الهندسة الاسلامية


لقد كان القصر متميزا بقسمين أساسيين هما (
مردانة) وهي الجزء الخاص بالرجال و(زنانة) وهو الجزء الخاص بالنساء كما هي القصور التركية التي فصلت بين (السلملك والحرملك)، وتمتعت أجزاء منه مثل (سوناهة مكان وبنج محل) أي جناح القصص الخمس وكذلك (هوى محل) الذي يستعمل كشرفة، على غنى في المعالجات المعمارية المتميزة بغنى العناصر الزخرفية بالرخام والقاشاني.

 

ربما تكون عمارة الهند الإسلامية هي آخر عنقود للزهو الحضاري الذي أرساه الإسلام قبل الترنح اللاحق، وتعد العمائر التي تركها أباطرة المغول الذين جاؤوا إلى الإسلام أعداء وانتهوا دعاةً ومدافعين ومكرسين لفنونه وحماة لثقافته، بحيث تشهد آثارهم على ذلك المسعى.

وإحدى هذه الآثار عمران مدينة فتح بور سكري المنسية و هي مدينة ملكية أسسها الإمبراطور المغولي أكبر بين أعوام (1570 ـ 1580) على بعد 20 ميلا غرب مدينة أكرا، بهيئة مريعة مسورة من ثلاث جهات تخترقها ثلاث بوابات ورابعها شاطئ جميل يتربع على أعلى رابية عليها القصر الإمبراطوري، والمسجد الجامع الذي حددت اتجاه القبلة ومناظر البحيرة كنه تخطيطه الذي جاء يحمل صفة معمارية هندية متميزة بالمحورية والانضباط الهندسي والتناظر الكتلي والمحوري لأجزاء البنايات، وتشمل مساحة المدينة على 5 كلم مربعة شاملة وكم من الجواسق والشرفات والمساجد والأضرحة والمساكن على الجانبين. وتربة المدينة جرف جبلي من الحجر الرملي يمتد منحرفا من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي الذي لعب كذلك كعامل مهم في خططها.

والزائر يدلج من الشمال الشرقي خلال باب أكرا ثم خلال «نوبة خانه» ثم يدخل من الشرق إلى الفناء الكبير (ديوان عام) الواقع في منتصف الجزء الغربي للقصر أوقات الاستقبال الرئيسية، وفي هذه القاعة باب صغير من الغرب يؤدي إلى (محلي خاص) أو أقسام القصر الخاصة التي تدور حول بركة مربعة ذات أربع قناطر تؤدي إلى جزيرة في وسطها وتقع في جنوبها المساكن الخاصة بالإمبراطور.

لقد كان القصر متميزا بقسمين أساسيين هما (مردانة) وهي الجزء الخاص بالرجال و(زنانة) وهو الجزء الخاص بالنساء كما هي القصور التركية التي فصلت بين (السلملك والحرملك)، وتمتعت أجزاء منه مثل (سوناهة مكان وبنج محل) أي جناح القصص الخمس وكذلك (هوى محل) الذي يستعمل كشرفة، على غنى في المعالجات المعمارية المتميزة بغنى العناصر الزخرفية بالرخام والقاشاني.

والبناء عموما مشيد من حجارة رملية حمراء بأعمدة وحيطان حاملة، وتغلب في معالجاتها الفنية الزخارف المحفورة حفرا سطحيا مع ميل نحو اللفائف التزيينية المحورة، وزخارفها النباتية لها ميل لمحاكاة الطبيعة وتأثيرات من العمارة الصفوية والعراقية، وكذلك صور تجسيدية على الطراز الهندي الذي تسامح فيها، ومما يميز معالجات الواجهات ويهبها طابعاً هنديا نمطيا هو مجموعة الأبراج الجرسية، التي ترسم خط السماء لهذا المهرجان الجمالي.

وتعتبر هذه المدينة من أعظم مدن العالم جمالا من حيث التنسيق وطراز العمارة الباذخ وأسلوب تشييد الحدائق والبساتين، واسمها فتح بور ـ سكري يتكون من مركب فتح بور ومعناها (مدينة النصر) وكلمة سكري هي اسم المكان الذي شيدت عليه المدينة. ولقد اتخذها الإمبراطور أكبر (1556 ـ 1605) عاصمة له بدلا من العاصمة أكرا تكريما لناسك متعبد يدعى الشيخ سالم تششي الذي كان يعيش في منطقة سكري عندما كانت أرضا قاحلة نائية، واكتسبت الحظوة بسبب الشيخ سالم بعد تنبوئه بان زوجة الإمبراطور سترزق بثلاثة أولاد مما أثلج صدر الإمبراطور اكبر، بعد أن حرم من الذرية، ومن وريث يخلفه في الملك.

وقد رزقت زوجة الإمبراطور فعلا بطفلها الأول في منطقة سكري وسماه جهانكير ثم ولدت بنفس هذه القرية طفلا ثانيا وثالثا ولما تحققت نبوءة الشيخ سالم أصبح الإمبراطور يكن له الاحترام والتقديس وآمن بما لهذه المنطقة (سكري) من حرمة وقداسة، مما دعاه إلى ترك عاصمته القديمة (اكرا) وبناء مدينة جديدة فيها على جانب كبير من الاهتمام في تخطيطها وبنائها، حيث شيدت فيها القصور الشامخة والقاعات الرسمية للاستقبال والحمامات والإسطبلات وأنشئت فيها بحيرة كبيرة وحدائق واسعة غناء مزدانة بأشجار السرو والياسمين حتى بولغ في التفنن بتزويق المدينة إلى الحد الذي جعل الإمبراطور يبني فيها أبراجا للحمام ويطليها باللونين الأزرق والأبيض وبنى فيها ساحة كبيرة للعب الكرة والصولجان (البولو) وأخرى لقتال الفيلة. وقد أحيطت هذه المدينة الواسعة بسور عظيم من الحجر الرملي الأحمر. وعندما توفي الشيخ سالم تششي عام 1571 دفن في مسجد المدينة، وشيد له ضريح فخم من المرمر الأبيض وأصبح مرقده وكذلك ابنه إسلام خان، مزارا للتبرك. ولقد وصف الإنجليزي رالف فتش هاتين المدينتين أجرا وفتح بور سكري عندما زارهما في عام 1585 بقوله «إنهما أعظم من مدينة لندن وأكثر منها سكانا».

ومن معالم المدينة ذات القيمة الصرحية الاستثنائية التي بنيت عام 1576، هو جامع (بولاند ـ دروازة) الذي معناه البوابة الشامخة وهو صفة اكتسبها من بوابته الفخمة التي شيدها تخليدا لانتصاراته ووصفها وليم فنج الإنجليزي الذي زار المدينة عام 1610 بأنها «من أجمل البوابات وأعلاها»، وارتفاع البوابة يبلغ 40 م زاد في صرحيتها موقعها الباسق الذي تصل إليه بدرج رخامي. وتعلو هذه البوابة مجموعة من القباب وطرز للخط مبهم وصوفي نصها «قال عيسى عليه السلام: هذا العالم مثل الجسر اعبر عليه ولكن لا تبن فيه بيتا وان هذا العالم باق. ولكن لأمد قصير فاقضه في النسك». وهذه العبارة كان قد رواها أبن عبد ربه الأندلسي في كتابه «العقد الفريد» بصيغة مشابهة. وهي حالة متناقضة تنم عن النفاق حيث إنها دعوة للزهد في البناء وما نجده هنا هو تبذير صريح، يرسم لنا صورة أخلاقية ربما طغت عليها حالة من النفاق.


ومع أن الإمبراطور اكبر كان قد بنى هذه المدينة باذلا أقصى العناية والاهتمام فانه قد نقل عاصمة ملكه إلى مدينة أكرا وهي العاصمة القديمة وعلى الرأي الراجح في سنة 1585 ويعزى سبب تحوله عنها بهذه السرعة إلى عجز في الإمدادات المائية التي تروي وتسقي مدينة فتح بور ـ سكري. وهي بذلك تشبه إلى حد بعيد مدينة سامراء العباسية في العراق ومدينة الزهراء في الأندلس التي لم يمر على عمرها أكثر من نصف قرن حتى بدأ يدب بها الخراب فدرست، مع الفرق هنا بان هذه المدينة التي استمرت حتى عام 1610 بقيت محافظة على معالمها المعمارية بحال أحسن من قريناتها التي أكل الدهر عليها وشرب.